ولم يغير تبني المسيحية كدين رسمي للدولة الرومانية (البيزنطية) العام 324 م، والتي امتدت حتى العام 614م، من تخطيط المدينة جذريا، وذلك بالرغم من انتشار ظاهرة بناء الكنائس والأديرة والأنزال والقبور المقدسة. لكن جرى توسيعها لتتكيف مع الدين الجديد ومتطلباته. لقد أصبح مركز المدينة في موقع كنيسة القيامة/كنيسة الشهداء (Martyium)، التي أقيمت عام 335م بأمر من القديسة هيلانة، أم الإمبراطور قسطنطين (حكم 306-337م)، وبتخطيط من المهندس العربي التدمري زنوبيوس، وذلك بعد أن تم توسيع المدينة باتجاه الغرب لتتوسطها الكنيسة. ويذكر بأن كنيسة القيامة قد أقيمت على أنقاض معبد فينوس، وبهذا لم تصبح كنيسة القيامة مركزا للقدس فقط، بل أيضا مركزا للمسيحية العالمية. لم تبدأ المسيحية في القدس بقسطنطين، فكل الدلائل تشير إلى استمرار وجود مجموعات مسيحية مختلفة ومتصاعدة القوة منذ القرن الميلادي الأول، كما يمكن الإشارة إلى تنظيمات كنسية اكليرية منذ القرن الثاني الميلادي، وقد تعزز هذا الوجود في القرن الثالث الميلادي، كما يمكن الإشارة إلى أماكن عبادة مسيحية في القدس منذ القرن الثاني.حافظت القدس على اسم إليا، بعد حذف كبايتولينا. كما تم رفع المكانة الكنسية للقدس إلى مستوى بطريركية، وبذلك أصبحت واحدة من مدن البطريركيات الخمس: روما والقسطنطينية وأنطاكيا والاسكندرية والقدس. وقد تحولت القدس بذلك أيضا إلى مدينة حج مسيحي ومركزا للرهبنة.
إن ظاهرة نمو الكنائس والمؤسسات المسيحية المختلفة، قد استدعت توسيع القدس لتضم إليها تلك المنشآت الجديدة، وعدا عن توسعها باتجاه الغرب فقد توسعت باتجاه الجنوب بشكل خاص بحيث ضمت إليها جبل صهيون وبركة سلوان الشهيرة. كما وأن انتشار الكنائس خارج أسوار المدينة أصبح شيئا متعارف عليه، خاصة على جبل الزيتون وسفوحه الغربية.ويذكر بأن هذا التوسع، إن صح بهذا الحجم، يعتبر الأكبر في تاريخ المدينة قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن هنا بدأ البعد العالمي لمدينة القدس، والذي ازداد عبر العصور اللاحقة، وأثر ومازال يؤثر على تاريخها وشكلها. إن تبني المسيحية في القدس لم يعني تحول المسيحيين إلى أغلبية سكانية، فكل الدلائل تشير إلى استمرار الوثنية وبقوة، لكن لم تعد الوثنية تتمتع بموقع الصدارة، كما لم تعد المسيحية تتعرض للملاحقة، حيث أصبحت الدين الرسمي للدولة، اذا استثنينا فترة حكم الامبراطور جوليان الجاحد (361-363م)، حيث ارتد عن المسيحية وحاول إعادة مجد الوثنية.
عاشت المدينة خلال القرون الثلاثة اللاحقة حقبة من الاستقرار النسبي، لم يتخللها إلا سوء إدارة وصراعات مذهبية مسيحية. وبدأت الكنائس والأديرة بالنمو في مختلف أنحاء المدينة مندمجة بذلك مع التخطيط الروماني لها. كما يمكن بوضوح، في ظل هذه الفترة، الحديث عن الجغرافية المقدسة والمشهد الحضاري المقدس وتأثيرهما على شكل المدينة.وبالإمكان إثبات وجود حوالي 20 كنيسة وديرا قد تم بناؤها خلال الفترة البيزنطية في القدس، والتي تشهد عليها الآثار بشكل واضح. كما يمكن إثبات وجود حوالي 30 ديرا وكنيسة بيزنطية إضافية تشهد على وجودها المصادر الكتابية، لكن لم تكشف الآثار عن وجودها او لم يتم تشخيصها على وجه اليقين.وبلا شك ساهم استقرار الملكة ايدوقيا (Eudocia)، زوجة الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (حكم 408-450) في القدس العام 340م بعد طلاقها او نفيها، في تطوير حركة البناء وتوسيع الكنائس وإضافة أخرى.
على أية حال، يمكن الحديث عن كنيستين كبيرتين ومركزيتين قد بنيتا في عهد قسطنطين، الأولى كنيسة القيامة كما أسلفنا في العام 325م، والتي مرت في عدة مراحل بناء بعد وفاة قسطنطين، والثانية هي كنيسة الصعود على قمة جبل الزيتون.كما وبنيت كنيسة أخرى على جبل صهيون "كنيسة صهيون" (HagiaSion) وذلك بين الأعوام 329-349م، وكان جبل صهيون يقع داخل المدينة. وحظي جبل الزيتون بكنيسة ضخم إضافية هي كنيسة الأليونية (Eleona Church). كما حظيت المنطقة المحيطة بالقدس بسلسلة من الكنائس أهمها الجسمانية (391م)، وكنيسة سلوان بجانب البركة، وكنيسة (قبر) مريم العذراء (451م)، وكذلك سلسلة من الأديرة التي أحاطت المدينة من كل الجهات، وقامت ببنائها على الأغلب نساء روميات من الطبقة العليا. أما أشهر وآخر الكنائس البيزنطية، فهي كنيسة مريم الجديدة المعروفة باسم "النيا/كنيسة مريم الجديدة" Nea Maria Church))، الواقعة بالقرب من باب النبي داود داخل أسوار المدينة وتمتد خارجها تحت السوري العثماني، والتي بنيت سنة 543م، على يد الإمبراطور جستنيان، لقد خطط لهذه الكنيسة البطريرك العربي إلياس بالاشتراك مع القديس سابا (مار سابا). وكانت تعتبر أكبر كنائس القدس حيث ضمت أيضا، بالإضافة إلى الكنيسة الباسيلكية المشكلة من ثلاثة أروقة ضخمة، نزلا للحجاج وكذلك ديرا ومستشفيين يضمان أكثر من 100 سرير للحجاج ومثلها لسكان القدس، بالإضافة إلى مكتبة وآبار.
إن حركة بناء الكنائس وتنامي قدسية القدس في أعين مسيحي العالم قد جذبت إليها أعدادا كبيرة من الفقراء والمرضى والتوابين من مختلف العالم المسيحي، مما استدعى إنشاء المؤسسات الخيرية لإطعامهم وإنزالهم واشفائهم.تشكل خارطة مادبا (تقع جنوب شرق الأردن) مصدرا غنيا لدراسة البلدة القديمة، فيمكن من خلالها استقراء الشوارع والمؤسسات العامة والكنائس والأحياء السكنية. إن خارطة مادبا صورة قريبة جدا لواقع القدس في نهاية القرن السادس الميلادي (حوالي العام 575م)، وقد تكون قد صنعت أصلا خلال فترة حكم الامبراطور جستنيان التي اتصفت بالنهضة.