تنوعت الحرف اليدوية في القدس وذلك تلبية لحاجات المدينة وزوارها، وقد ازدهرت في المدينة الكثير من الحرف التي ارتبطت بالهدايا التذكارية. وبسبب المكننة في الانتاج اختفت بعضها، وبعضها الآخر استطاع أن يحافظ على نفسه.
صناعة الشمع: اشتهرت هذه الصناعة في القدس ولقرون طويلة تلبية للحاجة الدينية، خاصة في الكنائس والأديرة والمقامات والمناسبات الدينية والاجتماعية، وقد تطورت صناعة الشمع التقليدية بحيث أنتجت شمعا بأحجام وأشكال مختلفة، مزينة بشتى أنواع الزخارف الآدمية والنباتية والهندسية والدينية وبألوان مختلفة، كما جرى تذهيب غالبيتها. ولم يقتصر الإنتاج على الحاجات المحلية، بل حمل الحجاج معهم هذه الشموع إلى ديارهم.
التطريز على البيض: وهي حرفة طريفة وفريدة ارتبطت بالسياحة الدينية، وباحتفالات عيد الفصح المجيد، وهي التطريز على البيض بأشكال مختلفة منتجة تحفا فنية فريدة من نوعها، توضع في العادة في سلال مجدولة من سعف النخيل. وبالإضافة إلى تخصص بعض العائلات المقدسية بهذه الحرفة، فقد ساهمت الراهبات في هذا الإنتاج.
صناعةالخزف المزجج (القاشاني) والفخار: صناعة الخزف المزجج ليست قديمة في القدس فقد غابت عنها لقرون طويلة، لكنها أصبحت ومنذ العقد الثاني من القرن العشرين، إحدى أهم الصناعات السياحية. ارتبط نشؤها بترميم البلاط الخزفيلقبة الصخرة، ومنذ ذلك الحين وهي في نمو مضطرد، حيث أصبحت من علامات القدس المميزة. كما ازدادت الخبرة المحلية بصناعة القاشاني عندما قام المجلس الإسلامي الأعلى بترميم قاشاني قبة الصخرة عام 1920-1922. واليوم تنتج القدس كميات كبيرة من الأواني والأشكال المختلفة التي تطرح في السوق المحلي، كما تصدر كميات كبيرة منه إلى الأسواق العالمية. وحافظت القدس حتى اليوم على صناعة الخزف على الطريقة الأرمنية/التركية، وذلك بالرغم من دخول مدينة الخليل المنافسة، والتي تصدر إلى أسواق القدس كميات كبيرة من الأواني الخزفية. ويمكن مشاهدة الانتاجات الخزفية المختلفة في أسواق المدينة وهي تتراوح ما بين أواني الطعام والشراب المختلفة من صحون وطاسات وجاطات وكؤوس وفناجين، إلى البلاط والمعلقات وحتى يمكن الحصول على طاولات كبيرة او صغيرة مغطاة بالبلاط. وفي الحقيقة هناك تنوع هائل من الخزف في أسواق المدينة سواء من حيث الشكل او النوعية، ويمكن للزائر أن يزور بعض مشاغل الخزف سواء في البلدة القديمة او خارجها وذلك للاطلاع على مراحل الانتاج.
أما صناعة الفخار (الصلصال) التقليدية فقد بدأت منذ وجدت القدس، واستمرت في المدينة عبر العصور المختلفة حتى منتصف القرن العشرين، ويذكر بأن القدس قد اشتهرت في صناعة الأنابيب الفخارية المستخدمة في المجاري والمزاريب وتشكيل الكيزان التي تستعمل لبناء الجدران على أسطح المباني. إن آخر مصنع فخار في المدينة قد اختفى في منتصف القرن العشرين، وما يشاهده الزائر في أسواق المدينة تنتجه بعض مشاغل الفخار في الضفة الغربية.
الأيقونات: وهي من أقدم الحرف التي استمرت في المدينة منذ الفترة البيزنطية، وعادة ما تنتج في الأديرة التابعة للكنائس الشرقية المختلفة. وتنتج القدس كمية كبيرة منها بأساليب مختلفة، منها الروسي واليوناني والقبطيوالسرياني...الخ.
صناعة خشب الزيتون: بسبب توافر خشب الزيتون وبكميات كبيرة في فلسطين، نمت في كل من القدس وبيت لحم صناعة تشكيل خشب الزيتون إلى أشكال مختلفة، أهمها تعبيرات القصص الديني مثل قصة الميلاد (مغارة الميلاد)، والشخصيات الدينية مثل السيد المسيح والعذراء مريم ويوسف النجار والحواريين، بالإضافة إلى أشكال الحيوانات والآنية والأدوات والرموز الدينية والاجتماعية علاوة على الخراف والجمال وغيرها من الحيوانات.
اشتهرت القدس في الماضي بهذه الصناعة، لكنها تراجعت إلى حد لم تعد فيه موجودة اليوم، فقد اختفت آخر المشاغل في العقد الثامن من القرن العشرين. وتمركزت هذه الصناعة اليوم في منطقة بيت لحم التي تنتج كميات ضخمة منه وتقوم بتزويد أسواق القدس بهذه المصنوعات الفنية، والتي ما زالت تعتبر من التحف المحببة والمعبرة عن الأراضي المقدسة.
الصياغة: يبدو أن صياغة الذهب والفضة، والتي مازالت تحتل مكانا مرموقا في الحرف والتجارة المقدسية، كانت على درجة عالية من الأهمية، حيث يذكر الرحالة التركي ايليا شلبي (سنة 1760) "وفي القدس عدد غير قليل من الصياغ وتجار الحلي والمجوهرات. وليس على وجه البسيطة نوع من أنواع الصياغة، إلا وفي القدس مثلها". وقد احتل الصاغة سوقا مستقلا. وبالتأكيد، تعززت صياغة الذهب والفضة في القدس بهجرات الأرمن، الذين أبدعوا في هذه الحرفة منذ بداية القرن العشرين. ويذكر بأن المدينة احتوت على أكثر من خمسين مشغلا لصياغة الذهب والفضة مع مطلع القرن التاسع عشر، وبمرور الوقت توسعت هذه الحرف وزاد عدد العاملين فيها وتنوعت منتجاتهم من الحلي، خاصة بعد أن انتقل مركزها من سوق الخواجات الموازي لسوق العطارين إلى سوق أفتيموس (سوق الدباغة).
صناعة النسيج: يبدو أن هذه الصناعة كانت تحتل مكانا هاما في الاقتصاد المقدسي، فقد كانت نساء القدس في مطلع القرن التاسع عشر يمتلكن الكثير من الأنوال وينسجن بهدف تجاري عدا عن نسجهن لحاجتهن العائلية. وبالإضافة إلى ذلك كانت الكثير من الأنوال الصناعية تنتشر في منطقة البيمارستان. لقد قدر عدد دور النسيج في القدس في القرن التاسع عشر بعشرة دور، وكان الإنتاج من الأقمشة يكفي حاجات الفلاحين والبدو المترددين على أسواق المدينة. وفي الحقيقة فقد جرت محاولة لإعادة الاعتبار إلى النسيج عام 1919، عندما قامت جمعية الصليب الأحمر الأمريكية (لاحقا تبنت المشروع جمعية محبي القدس/ Pro Jerusalem Society) بوضع أنوال النسيج في سوق القطانين، بعد تنظيفه وترميمه بالتعاون مع الأوقاف الإسلامية، وذلك في سبيل تشغيل كمية كبيرة من اللاجئين الأرمن الذين حضروا إلى القدس عام 1917. وقدر عدد الذين اشتعلوا بهذه الحرفة في السوق حوالي سبعين عاملا ماهرا، أنتجوا أصنافا مختلفة من المنسوجات، وقد تم دعمهم من أشهر عمال فلسطين بالنسيج من بلدة المجدل الساحلية، التي طالما اشتهرت بنسيجها. وبهذا انتعشت صناعة النسيج في المدينة. ويبدو أن العملية لم تدم طويلا، خاصة بسبب انتقال هذه الصناعة تدريجيا إلى خارج المدينة المسورة، وانتشار الإنتاج الصناعي المعتمد على الآلات الحديثة، فتراجعت الأنوال تدريجيا حتى اختفت كليا.
الدباغة: من الواضح بأن مدابغ القدس كانت نشطة، وكانت تحتل مركز المدينة (حي الدباغة)، وكانت تنتج كميات كبيرة من الجلود التي تستخدم في صناعة الأحذية والحقائب، كما كانت تنتج قِرَب لنقل المياه والسَقي لإنتاج الألبان، هذا عدا عن قِرَب الحجاج، والقِرَب الكبيرة المشكلة من جلد ماعز كامل كان يحملهاالسَقَّى في نقل المياه من مصادرها إلى البيوت. نقلت هذه الصناعة إلى خارج البلدة القديمة في سبعينات القرن التاسع عشر، وأخذت بالتراجع تدريجيا. وبالرغم من انتشار تجارة المنتجات الجلدية في أسواق المدينة من حقائب وملابس جلدية وأحذية، إلا أنه لم تعد هناك أية مدبغة، حيث يتم استيراد الجلود من الضفة الغربية او من خارج فلسطين، لتغطية حاجة السوق المقدسية خاصة من الملابس الجلدية والحقائب والأحذية.
المسابح: بوصفها مدينة حجاج ورجال دين، احتوت القدس على مشاغل كثيرة لتحضير المسابح والصلبان من الصدف والعظام وطبعا من خشب الزيتون والأحجار الكريمة، وقد اشتهرت هذه الصناعة كثيرا وأصبحت هدية مفضلة يحملها الزوار إلى ديارهم. تراجعت هذه الصناعة في القرن العشرين لصالح مدينة بيت لحم التي طورت فيها الحرف المرتبط بصناعة الصدف بشكل كبير.
الحدادة: تمركز الحدادون في الجزء الشمالي من سوق اللحامين إلى جانب النحاسين. وقد اشتهرت الحدادة العربية المنتجة لأدوات العمل مثل الشواكيش والأزاميل وكافة أدوات دقاقة الحجر، وأدوات الحدادين والنجارين والحرف الأخرى. كما أنتجت الأبواب والشبابيك والأقفال، والكوانين، والمزاريب...الخ، لقد بلغ عدد مشاغل الحدادة في بداية القرن التاسع عشر حوالي عشرين مشغلا، انتشر بعضها بين الأحياء المختلفة. استمرت هذه الحرفة التقليدية في سوق اللحامين حتى ثمانينات القرن العشرين حين تضائل عددها إلى أن بقي أحدها فقط. ويذكر بأن بعض الأديرة قد احتوت على مشاغل حدادة (كذلك نجارة) مثل دير الفرنسيسكان (سانت سلفادور)، ودير الأرمن، ودير الروم الأرثوذكس، والتي قدمت خدماتها ليس فقط للدير وملحقاته وممتلكاته، بل أيضا لأبناء الطائفة، وأحيانا لغيرهم بما فيهم المسلمين، كما ضم الحرم الشريف على ورشة حدادة.
معاصر السمسم: مازالت بقايا معاصر السمسم واضحة في المدينة، وهناك معصرتين مازالتا تعملان بالطرق التقليدية، أشهرها وأجملها وأكثرها حفاظا على المكونات التقليدية للمعصرة، هي معصرة أبو كامل الصالحي الواقعة على طريق باب السلسلة. وفي العام 1840م كان في القدس 15 معصرة سمسم، مما يعني بأن إنتاجها من زيت السمسم (السيرج) ومن الطحينة تعدى حاجات المدينة بكثير.
حرف البناء والترميم: اعتلت عائلة نمر (النمري) عرش المهندسين المعماريين والبنائين في المدينة على طوال الفترة العثمانية، وكان أحد أبنائها يسمى "معمارباشي"، وفي مدينة حية نسبيا مثل القدس، تحتل مهنة البناء فيها مكانا هاما، وقد ضمت مهارات تشكيل الحجر والرخام، وإعداد الشيد، وبناء الأقواس والعقود والقناطر بالحجارة، والقصارة، والتبليط... كما وأن وجود مبان هامة وضخمة مثل المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة قد تطلبت مهارات خاصة في البناء، ومن ضمنها طبعا مهارات الترميم، خاصة وأن البناء في القدس يدوم إلى قرون طويلة، يكون خلالها بحاجة إلى صيانة وترميم دائمين.
حرفة الشبابيك الجصية: تعتبر القدس اليوم واحدة من المدن القليلة في العالم التي تحتوي على ورشة صناعة الشبابيك الجصية، الواقعة في الحرم الشريف، والتي تقوم بإعداد الشبابيك لمباني المقدسات الإسلامية بنفس الطريقة والمواصفات التاريخية وبجودة فائقة. وبسبب جريمة حرق المسجد الأقصى عام 1969، فقد انتعشت هذه الحرفة من أجل استبدال كافة شبابيك المسجد، ولاحقا تقريبا تم استبدال شبابيك كل بنايات الحرم الشريف. ما تنتجه ورشة المسجد الأقصى من الشبابيك يعتبر أجمل وأدق ما ينتج منها في العالم، خاصة في مصر وتركيا وشمال افريقيا.
تشكيل الفسيفساء: وبسبب أيضا ترميم المسجد الأقصى عقب حريق عام 1969، فقد بات من الضروري إنشاء ورشة لتشكيل الفسيفساء الجدارية لإعادة ما فقد منها داخل المسجد، وفي نهاية تسعينات القرن العشرين تكونت مدرسة لتعليم فن الفسيفساء (الجداري والأرضي) في أريحا، وأصبح هناك مجموعة معتبرة من الفنيين في حقل تشكيل وترميم الفسيفساء، وتقوم أيضا بأعمال الترميم في الحرم الشريف وكنائس القدس وباقي المدن الفلسطينية. آخر مشاريع ترميم الفسيفساء وتشكيلها في القدس هي في قبة الصخرة والمسجد الأقصى وفي كنيسة الجسمانية (كنيسة الأمم)