ومرة أخرى تتعرض المدينة إلى عملية قلب درامية لهويتها الحضارية، فقد أراد صلاح الدين الأيوبي، إعادة القدس إلى هويتها الإسلامية التي انتزعها الفرنجة، وكانت أولى خطواته، إزالة غالبية ما أضافه هؤلاء داخل الحرم الشريف من أبنية ومصليات ورسومات ومنحوتات، وإعادته بكل مكوناته إلى مسجد للإسلام، مجريا العديد من الترميمات. كما صادر بيت البطرك اللاتيني الواقع إلى الشمال من كنيسة القيامة وحوله إلى خانقاه للصوفية (الخانقاه الصلاحية)، وذلك بعد مغادرة غالبية سكان حي البطرك، ووضع يده (بالمصادرة او الشراء!) على كنيسة سانت آن ليحولها إلى مدرسة للشافعية (المدرسة الصلاحية)، لتعود إلى وظيفتها التي كانت عليها قبل الفرنجة، وثبت منبر نور الدين زنكي، الذي أمر بصنعه نور الدين في حلب لوضعه في المسجد الأقصى حال تحريره، وذلك إلى يمين المحراب الذي أعاد بناءه، وأضاف إلى بيت المقدس المزيد من مؤسسات العلم والتصوف وبيمارستانا (مستشفى)، حيث حول لهذا الغرض جزءا من مجمع الاسبتارية في منطقة الدباغة، كما قام بتحصين أسوار المدينة وقلعتها وحفر خندق للدفاع عن المدينة. ولم يبخل صلاح الدين على مؤسساته برفدها بالأوقاف الغنية، ويمكن ملاحظة مصادرته للأوقاف الصليبية وتحويلها على المباني نفسها التي صادرها، وزاد عليها الكثير، حيث أن مؤسساته في المدينة قد اتصفت بالضخامة وكثرة أعداد المستفيدين منها. كما أعاد إلى الروم الأرثوذكس إلى مكانتهم في كنيسة القيامة.

 

من الواضح إدراك صلاح الدين لمعضلة بيت المقدس في حينها، وهي المشكلة الديموغرافية، حيث قام بتشجيع مجموعات مختلفة للسكن في القدس، نذكر منهم: الأكراد، والمغاربة، والأتراك، والتركمان، والعرب بأصولهم المختلفة، بالإضافة إلى أبناء وأحفاد من نجى من المذبحة من سكان القدس الأصليين الذين كانوا قد ارتحلوا إلى الأرياف التي ظلت فلسطينية او إلى دمشق، كما أحضر إلى المدينة العسقلانيون بعد أن دمرت مدينتهم. ونذكر من القبائل العربية التي نزلت القدس بني حارث وبني مرة وبني سعد. وفي الحقيقة أنه لولا انشغال صلاح الدين حتى اليوم الأخير من حياته بالنشاطات العسكرية مقارعا ما تبقى من الفرنجة على أرضي بلاد الشام، وانشغاله أيضا بتنظيم أمور دولته، لحظيت القدس بالمزيد من العمائر الصلاحية. ويبدو أن اصطلاح الحرم الشريف (المسجد الأقصى بساحاته وجدرانه) قد تعزز خلال هذه الفترة وأصبح مصطلحا لوصف هذا الموقع المقدس، كما يبدو بأن وظيفة ناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) قد أسست في هذه الفترة لتستمر بنفس المسمى خلال القرون اللاحقة.

 

وتوالى أبناء وحفدة صلاح الدين، بالرغم من صراعاتهم المريرة على الحكم، الاعتناء بالمدينة خلال الفترات اللاحقة والتي استمرت حتى حوالي عام 1250م، تاركين ورائهم عددا كبيرا من المباني العامة، والتي مازال جزء هاما منها ماثلا للعيان، خاصة في منطقة الحرم الشريف والمناطق المحيطة به، ويبدو بأن إحاطة الحرم بالمباني العامة قد تم وضع أسسها خلال الفترة الأيوبية، لتتخذ بعدا جديدا خلال الفترة المملوكية، بل ولتكتمل.ترك الأيوبيونمدينة القدس بلا تحصينات، حيث قام الملك المعظم عيسى بتدمير أسوار القدس عام 1219م، حين شعر بعجزه الدفاع عنها أمام موجات جديدة من الفرنجة، ولم ينج من ذلك إلا القلعة، التي طالتها أيضا المعاول العام 1229م.