القدس
اختلف حجم القدس ومساحتها عبر العصور، وذلك تبعا لأهميتها والقدرة على حل إشكالية تزويدهابالمياه وطول فترة الهدوء التي مرت عليها بدون غزوات وهدم، بالاضافة للوضع السياسي ومصالح الأطراف ذات العلاقة. واختلفت النظرة إلى مفهوم المدينة بين المدينة الروحية والمدينة الدنيوية. وكما هو معروف ترتبط القدس روحيا بأكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، ولا تعتبر القدس الدنيوية بشكلها وسكانها هامة لهم، ما يهمهم هو الرموز التي تحتويها، كما أن للقدس مشهدا مقدسا، يضم على الأغلب البلدة القديمة والأماكن القريبة منها. وقد لا تعني القدس من ناحية المساحة نفس الشئ عبر العصور.
وهناك جملة من المصطلحات المستخدمة والتي بحاجة إلى توضيح:
1. البلدة القديمة: تحيط بها أسوار السلطان العثماني سليمان القانوني (القرن السادس عشر)، ولها سبعة أبواب مفتوحة أهمها باب العمود في الشمال وباب المغاربة في الغرب، وتقسم تقليديا إلى أربعة حارات: حارات المسلمين، وحارة النصارى، وحارة الأرمن، وحارة اليهود. تبلغ مساحة البلدة القديمة أقل من كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها حوالي 40.000 نسمة، منهم حوالي 3000 إسرائيلي، والباقي من الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين). كما تضم البلدة القديمة أهم المقدسات للديانات السماوي الثلاث، وتنتشر فيها المباني المقدسة من كنائس ومساجد وكنس، وعددا كبيرا من المباني التاريخية، التي تمثل غالبية الفترات التاريخية التي مرت على محيط المتوسط منذ الفترة الرومانية وحتى القرن العشرين. وتنتشر في البلدة القديمة عددا كبيرا من الأسواق القديمة التي تعبر عن روح الشرق. سميت في الفترة العثمانية "قدس شريف"، وقصد بها البلدة القديمة فقط، وقد تعني أيضا المنطقة المحيطة بالبلدة القديمة. القدس القديمة وأسوارها مسجلة على قائمة التراث العالمي التابعة لليونيسكو.
2. القدس تحت الانتداب البريطاني:وسع الانتداب البريطاني حدود القدس غربا مسافة عدة كيلومترات، بحيث وصل إلى حدود لفتا (أسست هذه الحدود لقرار التقسيم)، في حين وصلت شمالا إلى الشيخ جراح وشرقا إلى السفوح الغربية لجبل الزيتون وجنوبا جبل المكبر، وبهذا أخرجت من القدس تجمعات فلسطينية كثيرة مثل سلوان والطور والعيسوية والعيزرية وابو ديس، في حين ضمت تقريبا كل المستوطنات اليهودية المحيطة بالقدس، خاصة التي تقع غرب المدينة. وبالتأكيد لم يخلو تخطيط القدس في هذه الفترة من الدوافع السياسية، بما فيها ضمان أغلبية يهودية داخل حدود البلدية.
3. القدس في قرار التقسيم (Corpus Separatum): اتخذت الأمم المتحدة عام 1947 قرارا بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة مناطق، دولة عربية، دولة يهودية، والقدس تحت إدارة دولية مؤقتة سميت "مكانة خاصة" (Corpus Separatum)، ضمت هذه مساحة واسعة بحيث شملت بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا جنوبا، ووصلت إلى بيت حنينا شمالا، وضمت العيزرية وأبو ديس شرقا، وعين كارم ولفتا ودير ياسين والمالحة غربا.
4. القدس المقسمة: نتيجة حرب عام 1948، تم تقسيم القدس عبر خط الهدنة إلى شطرين، مرت الحدود على بعد عدة أمتار من باب العمود على امتداد طريق رقم 1، وشكلت السور الغربي للبلدة القديمة والطرف الغربي للسور الشمالي والطرف الغربي للسور الجنوبي الحدود الفاصلة بين الشطرين، ووقف الجنود الأردنيون على أسوار المدينة، وفي الجهة المقابلة عسكر الجنود الإسرائليين:
أ. الشطر الغربي، وضم أكثر من 80% من مساحة بلدية القدس، وشمل على غالبية الأحياء العربية الحديثة والعصرية بمبانيها الجميلة وحدائقها ومكتباتها، وكذلك على كل الأحياء اليهودية والمختلطة، كما اشتمل على مبنى البلدية والبريد وسكة الحديد ومصادر الكهرباء والماء والأسواق الحديثة والطريق إلى ميناء يافا ...الخ. وقد هجر من هذا الشطر وريفه حوالي 70 ألف فلسطيني، بحيث خلى هذا الشطر كليا من الفلسطينيين. أعلنت إسرائيل عقب قيامها "القدس" عاصمة لاسرائيل، ونقلت الكنيست ومقر رئيس الدولة ومقر رئيس الوزراء وبعض الوزارات إلى الشطر الغربي من القدس.
ب. الشطر الشرقي، وضم ما تبقى من القدس، بما فيها البلدة القديمة، والمنطقة المحيطة بها بمساحة بلغت 6.5 كم2. وما عدا البلدة القديمة، لم يحظى الشطر الشرقي مقومات الحياة، ولكنه تلقى أعدادا ضخمة من اللاجئين. قامت الأردن بضم هذا الشطر مع الضفة الغربية إلى الأردن، ورفعت مكانة القدس إلى مستوى عاصمة ثانية للمملكة بعد عمان. وحتى لو أرادت الأردن تنمية هذا الشطر، إلا أن امكاناتها كانت متواضعة وتحديات المدينة كانت كبيرة، ومع هذا فقد بنت بعض المدارس ومبنى محاكم ومبنى بريد ومبنى مستشفى ... الخ إلا أنها لم تستطع أن تعوضها عما فقدته في الشطر الشرقي.
5. القدس بعد حزيران 1967: احتلت اسرائيل في حرب حزيران عام 1967 الشطر الشرقي من القدس (طبعا وباقي الأراضي الفلسطينية – الضفة الغربية وقطاع غزة). وقامت بسلسلة من الاجراءات العميقة التي أثرت على واقع المدينة ومستقبلها. وكان من أوائل الاجراءات توسيع حدود الشطر الشرقي من المدينة من 6.5 كم2 إلى 72 كم2 ضامة بذلك مساحات شاسعة من الضفة الغربية للقدس الإسرائيلية، علما بأن مساحة الشطر الغربي من المدينة يبلغ حوالي 35 كم 2، وهذا يعني أن ثلثي مساحة "القدس الموحدة"، هي في الشطر الشرقي. وتم حل البلدية العربية وضمها إلى البلدية الإسرائيلية. كما قامت الحكومة الإسرائيلية بتطبيق القانون الإسرائيلي على الشطر الشرقي، مما يعني عمليا ضمه لإسرائيل، ثم أعلنت أن "لقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل"، وقد شرعت لذلك قانونا من الكنيست عام 1980. لقد شمل قرار الضم الأرض وليس السكان الفلسطينيين الذين يعيشون عليها. وبهذا أصبح الفلسطيني في القدس يمتلك حق الإقامة المشروطة في المدينة، لكنه ليس بمواطن، بل ساكن فقط، وكأن الفلسطينيون في القدس قد جاءوا كزوار إلى المدينة ولم يخرجوا منها، وليس أن إسرائيل هي التي احتلت المدينة. ولم يتغير هذا الواقع "القانوني" لسكان القدس من الفلسطينيين حتى الآن.
كما قامت إسرائيل بعملية إستيطان مكثفة شملت كل أحياء ومحيط الأحياء العربية في المدينة، وشكلت هذه المستوطنات حلقات مختلفة:
أ. مستوطنات تفصل الشطر الشرقي عن باقي الضفة الغربية.
ب. مستوطنات تفصل الأحياء الفلسطينية عن بعضها.
ت. مستوطنات داخل الأحياء الفلسطينية.
ث. مستوطنات داخل البيوت الفلسطينية.
ويهدف الاستيطان في الشطر الشرقي تحقيق مجموعة من الوقائع:
أ. الوصول إلى أغلبية يهودية في الشطر الشرقي.
ب. فصل القدس كليا عن باقي الضفة الغربية وخلق وقائع لا يمكن إعادتها إلى الوراء.
ت. تشكيل عوامل طرد للفلسطينيين لمغادرة المدينة.
ث. تفتيت النسيج الحضري للشطر الشرقي.
ج. خنق الأحياء الفلسطينية وعدم ترك فراغات لها للتوسع والنمو.
وتم تعزيز فصل القدس عن باقي الضفة الغربية ببناء جدار الفصل العنصري.
6. الحوض المقدس (الحوض التاريخي): مصطلح إسرائيلي استخدم لأول مرة على طاولة المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية في كامب ديفيد عام 2000، ويقصد به البلدة القديمة ومحيطها. يشمل الاصطلاح البلدة القديمة وجبل الزيتون من الشرق، ومن الشمال أطراف الشيخ جراح ووادي الجوز، ومن الجنوب سلوان، ومن الغرب سور البلدة القديمة. ويشمل هذا الجزء كل المقدسات تقريبا. وقد حاولت إسرائيل فصل هذا الجزء من القدس عن باقي المدينة ووضعه في إطار خاص. رفض الجانب الفلسطيني هذا الطرح، واعتبر أن هذا الجزء هو جزء لا يتجزأ من القدس التي احتلت عام 1967، لكنه كان على استعداد لترتيبات تضمن حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة. لم تتكلل مفاوضات كامب ديفيد وما أعقبها بالنجاح. مازال الاصطلاح يتردد في الأدبيات الإسرائيلية.
7. واقع القدس الآن:
مساحة القدس: (شرقها وغربها) حوالي 125.2 كم2، منها حوالي53 كم2 في الشطر الغربي، والياقي يبلغ حوالي 72 كم2 في الشطر الشرقي.
عدد السكان: يبلغ عدد سكان القدس (شرقها وغربها) أكثر من 900.000 نسمة، منهم حوالي 370.000 فلسطيني.
بعد مرور ما يقارب نصف قرن على السيطرة الإسرائيلية على الشطر الشرقي، فالقدس أكثر تقسيما مما كانت عليه بعد العام 1948، فقد زادت الفوارق بين الشطرين بشكل مذهل، وهذه الفوارق تطال كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والقانونية والبنى التحيتة والاسكان...الخ والحقيقة أنه لا توجد مدينتين مختلفتين فقط بل عالمين مختلفين تماما، ويمكن اليوم مشاهدة الحدود بشكل واضح، يكفي النظر إلى البنية التحتية او الاقتصاد لمعرفة خطوط التقسيم.
يشكل الفلسطينيون اليوم حوالي 39% من مجموع سكان ما يسمى "القدس الموحدة"، يعيشون فقط على حوالي 13% من أراضي الشطر الشرقي، في حين تمت مصادرة ما تبقى من أراضي الفلسطينيين في المدينة لأغراض الاستيطان اليهودي، والمناطق الخضراء (احتياطي استيطاني)، والمناطق الأثرية، والطرق الإلتفافية لربط مستوطنات الضفة الغربية بالقدس ...الخ هذا الأمر خلق ضائقة سكنية كبيرة لسكان الشطر الشرقي من المدينة، بحيث يحتاج الفلسطينيون في القدس الآن إلى أكثر من 20 ألف وحدة سكنية، وينطبق هذا الأمر على الصفوف المدرسية والحدائق والبنى التحتية ...الخ
يعيش الآن في القدس حوالي 370.000 فلسطيني، منهم حوالي 100.000 فصلهم الجدار عن مدينتهم ومدارسهم ومستشفياتهم وأماكن عملهم. ويستعمل حوالي 100.000 فلسطيني نقاط التفتيش التي زرعت حول مدينتهم، بحيث لا يستطيعون مغادرة المدينة او العودة إليها إلا بالمرور عبر هذه التفتيشات بما يشمل ذلك من ضياع للوقت، علاوة على الضغط النفسي الشديد المولد للعنف. ويعيش حوالي 80% من فلسطيني القدس تحت خط الفقر ويعانون من كل أمراض الفقر، وقد تحولت غالبية أحيائهم إلى أحياء صفيح، الأكثر اكتظاظا. يشكل الفلسطينيون القوة العاملة الأساسية غير المدربة والتي تعمل في تنظيف كل شيء في القدس الغربية، علاوة على العمل في ورش البناء والنقل.
8. القدس في القانون الدولي: بقي موضوع القدس معلقا في القانون الدولي، فمبوجب هذا القانون مازالت المكانة الدولية (قرار التقسيم) سارية المفعول، حيث لم تعترف أية دولة بالقدس سواء مقسمة أم موحدة عاصة لإسرائيل، لذلك تتواجد كل السفارات في تل أبيب بما فيها سفارة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا توجد أي سفارة في القدس. أما القنصليات الموجودة في المدينة، فهي إرث يعود إلى الفترة العثمانية. وتعترف كل دول العالم أن الشطر الشرقي من المدينة هو محتل وجزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتؤكد على ذلك عشرات من القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.